12 Apr 2013

ما أخذ منك إلّا ليعطيك..فاصبر

في اللغة "السكينة" مؤنث مصدرها سكن...وفي بدء الخلق جعل الله ذكرا ثم جعل من ضلعه أنثى تسكن إلى جواره...وما بغير هذا عرفت السكينة ولا السكن: المجاوره

عندّما غلّق الأب كفوفه دوني...وأدار الأخ تلو الأخ ظهريهما...كان الخال تلو الخال حتى واراهما الثرى...ثم لم يكن أحد. وبين غياب السكن وحضوره علمت أنه رزق...وأن ما تأخذ ليس لك وحدك: للآخرين فيه نصيب...فعلم من حولي أن فاقد الشيء يمكن أن يعطيه...بغزاره...فكان التكامل والمحبة الخالصه...بلا غرض...ولا غايه...

كلّما حبس الله رزقه..أظن بنفسي الشرور فأظل أعطي ما أحتاج لعله يرضى ويصفح فيصل مانقطع...فكان الصديق...فعلمت أن احتباس الرزق ما كان إلا ليعطي المزيد...وأن من الحمد وهب النعمة عند انقطاعها حتى تأتيك...وأن العمى هو ألا ترى الله متى انقطعت إحدى نعمه

الحواس مداخل الإدراك...ولأن الأضلاع بيت الرئة كان إيقاع التنفس والصوت منابع السكن...ولأن الحواس تتكامل فإن للصوت ملمس وحرارة تدركهما بغير أذنيك. كلّما ضعفت حاسة عوّضت نقصها بشحذ حاسّه أخرى...فكان من ضعف سمعي اعتماد العينين في إدراك الأحرف على شفاه الآخرين...وكان من ضعف بصري أن جعل الله للقلب عين تدرك بغير الحواس...فصرت أدرك حرارة أجساد الآخرين بغير لمس...وإيقاعات تنفسهم بغير سمع...اتسع ادراكي ليتعدّى حدود حواس الجسد فصرت أراهم في الغياب واسمعهم في الصمت...وأناديهم فيلبوا برغم طول المسافات

يأتيني الحب من قلب فتى أسمر فأوليه ظهري...فالقلب قد صار كالشيخ الهرم لا يفيده الحب بشيء...كشيخ راضٍ بقدره فهو يسعد بالأنيس لا الشريك...فما عاد له طاقه باحتمال أهوال الحب...فألملم طرف ثوبي وأمضي...وحدي..بلا أنيس...ولا سكن...فتذكرني الوحدة بيوم كنت فيه وحيدة...وسط رفاق لا أعرف شخوصهم نتخبط وسط الغاز والخرطوش...تصيبني طوبه في عظمة قدمي اليمنى فأردها بكسر بلاطتين اعطيهم للرفاق...وأفتت الثالثه وأردها وحدي...فيجيبونا بطلق خرطوش يرشق في دعوة أمي بالسلامه فينفجر فوق رأسي كمظله...ألملم طلقاته الصغيره المتناثره حولي وأضحك متعجبّة من رحمة الله...والرد منهم كالمعتاد: قنابل غاز كثيره تسقط خلفنا فنحاصر بين انعدام رحمتهم وبين الغاز...أمارس دوري المعتاد في مثل هذه الظروف: أوزع القطن المبلول بالكحول على المحاصرين حتي يعبرنا الغاز...يدق جرس الموبايل فأجيب...محتمية بعامود نور لئلا يصيبني خرطوش طائش أو تقبّلني عبوة غاز عنوة في فمي الصغير...يطلبني للقهوة..فأذكر أني لم أطعم شيئا منذ ظهيرة هذا اليوم...فأستجيب للاستراحة القصيره

ألتقيه في منتصف المسافه بين خط المواجهه والقهوه مندفعا نحوي كإعصار...فأقف مذهولة...يذكرني بأني في الشارع لأكثر من ليلتين وبأن جميع أصدقائي عادوا إلى منازلهم...وأنني وحدي تماما...استجدي فنجال من القهوة وراحة قصيره...مافيش قهوة...استريحي في بيتك...يوقف تاكسي...وقبل أن أدرك موضع قبضة كفّه على ذراعي كنت داخل التاكسي والباب يغلق...أول ماتروّحي تبعتيلي مسدج...ثم يلتفت لسائق التاكسي آمرا: روّحها البيت...ينظر إليّ بحزم...أدير بصري نحو السائق...أخبره بالوجهه الّتي نقصدها ونتحرك

أنت أبدا لا تنسى صوت يهاتفك في لحظة كهذه..ولا ذراع أزاحك بعيدا عن هلاك محقق في مثل هذه الليله...ليلة امتدت فيها المواجهات حتى شارع اللفكي للصباح التالي وأصيب كل من أعرفهم...واقتحمت البيوت بحثا عن الكاميرات والمحتمين بها من جحيم الغاز والخرطوش في الشارع...ثم تتذكر أنه قد مر وقت طويل على آخر لقاء فتفكر في السؤال...أهاتفه فلا يجيب...ولا أحد يعرف عنه شيء...إذن فهو مسافر...على غير عادته في السفر تأتيني منه رساله...فقد أدرك أني أتخبّط في قاع الجحيم...يخبرني بأنه عائد خلال يومين وبأننا يجب أن نلتقي...فأستجيب...وأنتظر ولا أتعجّل...

يعود...ويرجع صوته عبر الهاتف ليذكرني بوصل مانقطع من ذكريات منسيّة...أتذكر فيروز...أبيات من الشعر..الورد الأبيض...غزالة رافقتني لخمس سنين هي فترة دراستي في الكليّة...وجامع البنات..وقهوة صغيره خلف مسجد الحسين...المنطقه الوحيده تقريبا الّتي لم ترتبط في ذهني بالدماء في العامين السابقين...عامين بلا إدراك كامل لأي شيء...أحيا وسط الخلق كطيف لا أكاد أميز نفسي عن أية شيء...عامين أرى فيهما الخلق ولا أبصرهم...ولا أراني ولا أبصرني

كعادتنا نحن أبناء الأبراج الهوائية نتحرك كالريح الطيبة/النسيم/الرياح العاصفة/الأعاصير كيفما ترائى لنا...في كل الأحوال لقد تأخر على موعده...اقتحم المكان على عجل كعاصفة صغيره..أسلم بهدوء ويجلس على مهل بعد هروبه من أحد مشاكساتي بضحكة طيبه...فور ان استقر على كرسيه بدأت الموجودات في الاختفاء حتى تلاشت تماما...انحصرت الدنيا في المساحة بين قمة رأسه وطرف المنضده...تتسع وتنكمش بحركة ذراعيه يقلبهما...ويقلب معهما الدنيا كيفما شاء...ثم شرع في مهمته المقدّسة: لملمتي من أطراف الدنيا حتى أتركب بتمامي...فأسكن

في السكون تتفتح حواسّي الخمس...وسادسة تعرفها النساء...وسابعة يعرفها المتصوفّة ومتقني اليوجا...وتهجرني حدة الطبع وشراسه السلوك...فأصبح كقطة منزلية أليفه...استكانت فطابت لها الحياة وحلت لها المشاكسه...كما كنت...طفلة تلهو بحجر أبيها تطرف عينه وتضحك

للمرة الأولى نلتقي بعيدا عن أيام الاشتباكات...ولأول مرّة أبصره: رأس أسد وقلب عصفور...شعره النصف ملفوف حول وجهه الشامي يبدو تماما كلبدة أسد...بضع الشعيرات البيضاء...لجسده حرارة أكاد أشتم طيب دفئها من موضعي هذا...أنف أخذت من إفريقيا انتفاخ صيوانا الفتحتين ومن الشام نعومة خطوطها...ابتسامته تبدأ من عينيه وضحكته تبدأ من اعمق نقطة في رئتيه...أحور العينين ضيقهما...هم الجزء الوحيد في جسده المختوم عليه بختم فلسطين. عادة ما أميز الشوام من طبيعة امتلاء أجسادهم...ولكن الفلسطينيون وحدهم أميزهم من بين أهل الشام أجمعين بنظرة العين المتحدية. خلف غرور مصطنع وصلافة ليست صفة أصيله في طبعه يخفي خجل مفرط يظهر في حمرة خفيفه وحراره تنبعث من خديه...هو طيب...طيب كإبن السابعة...وعصبي كإبن السبع شهور...لكن طيبته يصعب إدراكها بسهولة...فهو يخفي قلبه وراء العديد من الحواجز الّتي لا يفتحها إلا بعد وقت طويل إن إئتمنك

فوق تلك المنضده يعلم كلانا أنه لا داعي لإثبات أي شيء...فلا هو يحتاج لأن يتباهى بعلمه او ذكورته...ولا أنا أحتاج لأن أثبت له أني أزن سبعة قبائل ويزيد...ولأننا نعلم أن تلك هي الواجهات الّتي لا تحتاج إلى تأكيد فليس هناك مجال سوي لممارسة طباعنا الأصيلة بغير ادعاء...فنجلس متواجهين في غير تحفّز..كقطة أليفة يغلبها طبعها فتخمش وجهه مغلّفة أظافرها فيلين ويضحك...وأسد متكاسل يغلبه طبعه فيشد ذيل القطه...فتدعّي التنمر ويضحك منها...لا يمل منّا الوقت...ولا نملّ مع الوقت...ولكن الحياة مشاغل ولكل منا أعباؤه ومسؤولياته...لذلك فإن المواعيد تنتهي

لم أعد اتذّمر عند انتهاء المواعيد أو أتشبّث بذراع أحد...فكل شيء ينتهي...وما لا ينتهي فإنه لا يتجدد...فأنصرف لشؤون حياتي...اتسكع في الطرقات كما كنت أفعل قديما...أفرد ذراعي للنسيم كلّما أقبل غير عابئة بالعابرين...فالكلمات عادت لتنهمر على عقلي أثناء المشي كذي قبل...وها أنا أكتب ما اختزنته رأسي اثناء المشي...صحيح أني مازلت اتخفى خلف الفصحى...لكني أعلم أنه لن يمض وقت طويل حتي تعود العامية للانسياب من بين أصابعي مرة أخرى...عندما اتذكر كل ما لا استطيع استعادته من بين فكّي عقلي الباطن من ذكريات موجعة

3 comments:

تناقضات غربة said...

صعب ان تقابليه بدون مشاكسة او اعجاب .. صعب لاي شخص ان لا يحبه حتى و ان لم يكن يعرفه ! كلماته وحدها كافية لان تعطيك احتمال الحياة والمقاومة .. الم يقل يوما "أنا الاحتمال"؟

موضوع رائع .. رزقك الله السكينة :)

adel mohamed said...

جميل جدا.

sab7al5air said...

جميله لغتك واحببت الحب المداري وسط الفوضي
كنت هنا
صباح الخير علا