نعمتي...وربما كانت هي ذاتها لعنتي:
القدرة على الاحتفاظ بمظهر متماسك في أسخف المواقف وأكثرها امتلائا بالمشاعر...أبدو حينها باردة كالثلج
بسبب كرب ما بعد الصدمه فقد صار باطني كظاهري: محايد تماما...خال من كل شعور إلا الغضب الذي يظهر من حين لآخر...وعادة ما يكون غضب مبالغ فيه وفي غير موضعه في معظم الأحيان...وفي كل الأحوال ليست لدي القدره على السيطره على أية شعور...فعقلي حاليا يقود الدفّه بلا مشاكسات من المشاعر...حتى الابتسام لم يعد فعلا تلقائيا...لم أعد أدرك دينايميكيه العمل الداخلية لأية شيء...فمثلا: يحدث شيء ما يدفعني للإبتسام ولا يستجيب العقل...لا يرسل أية إشارة لأية عضلة لكي تتحرك من موضعها قيد أنمله...فلا أبتسم...أحيانا أتخذ بإرادتي هذا القرار...فأبتسم وكأنني لا أفعل...ولأنني لا أشعر بشيء...فقد صرت أكتب بالفصحى بقواعد نحوية مكسورة بشكل واضح...ولكنّي لا أعبأ بتصحيحها...وأظن في هذه اللحظة بالتحديد أن هناك شيء ما مكسور...شيء أهم بكثير من قواعد النحو والصرف والإملاء الّتي أسحقها الآن بغير اكتراث واضح كان أو خفيّ...ولكنني أحاول أن أستخدم التشكيل...أحب علامات التشكيل...فهي تجعل الكلام يبدو وكأنه دقيق لغويا وإن كنت أعلم أنه غير ذلك..يمكنني الآن أن أدّعي أنني اتنمّر ببلادة على اللغة...فهي لن تستطيع المقاومة على أية حال...فلتنسحق اللغة! هناك شيء أهم مكسور...واللعنة الكبرى أنني لا استطيع تحديد ماهيّته لأنني لا أشعر بالألم بالرغم من أنني مدركة بشكل ذهني تماما أن هناك ألم في مكان ما!
بغير موعد أدق الجرس...أدلف إلى الداخل بمرح مفتعل ونبض منخفض...فأنا لا أعرف عن عيادة المرضى أكثر من الممرضات...فأنا مثلهنّ: انفصل شعوريا تماما عن المرضى...فقدت اعتدت سماع التأوهات وابتلاعها في صمت...وأتذكر سنوات طفولتي الأولى عندما كنت أرقد كل شتاء مره أو مرّتين في الفراش...مهددة بفقدان السمع بلا جليس غير التلفاز نهارا...وصوت الماء المثلج ينهمر من الكمّادة بين يدي أمي ليلا...لا يتوقف حتى بعد منتصف الليل بساعه أو اثنتين عند انتهاء نوبة أبي في تبديل الكمّادات...لم يكن يقطع حبائل أفكاري في مثل هذا العمر سوى بعض الأسئلة المعتادة: أخدتي المضاد الحيوي؟ حاسّه بحراره؟ ودانك بتوجعك؟ عاوزه تاكلي؟.....إلخ...وهمسات متبادله بين أفراد الأسرة عن أن حرارتي لا تنخفض أو أن حالي اليوم أفضل قليلا...وبعض التقارير الطبية المنزليه عند تبديل النوبات بين أبي وأمي: أخدت جرعة المضاد الحيوي بتاعه الساعه ١٢ ومافيش حاجة بتثبت في معدتها من الصبح فحاول تديها شوربه او عصير...وأحيانا لم يكن يقطع حبائل أفكاري شيء لأنني لا أسمع شيء...إطلاقا...عندها تكون القنوات السمعية مسدودة بالكامل بالدماء وأحيانا القيح والصديد...حينها كنت أعتمد على قراءة الشفاه
الحقيقة أن شيء من ذلك لم يكن يزعجني بالدرجة المفترضه...فقط الكحّة كانت الكابوس الأعظم...فهي قادرة على أن تخرق طبلة أذني المشروخة فأفقد سمعي للأبد...لا أتذكر أنني كنت أبكي سوى كاستجابة طبيعية لملامسه الكمادة المثلجة لجبهتي الملتهبه فأضحك: بابااااا...عيني بتعيّط لوحدها! انا مش بعيّط بس عيني بتعيّط!..لا أتذكر بكائي بسبب المرض سوي مرّتين. مرّة عندما كان هناك بعض العمّال ببيتنا يقومون بتركيب نوافذ زجاجية في الشرفه لحجز الهواء من الجهة البحرية الغربية...كنت ألعب معهم كل يوم وأراقبهم بانبهار وهم يقومون بعملهم...حتى مرضت...عندما عاد النجار اليوم التالي للانتهاء من عمله وجدني ممدة على الأريكة فسألني بعطف: انتي عيانه؟..فرد عنّي أبي أن نعم...وبكيت...لأول مرة في سنوات عمري الصغيرة أشعر بالعجز! يومها فقط كرهت المرض...وكرهت العجز
المرّة الأخرى الّتي بكيت فيها بسبب المرض كانت درجة حرارة جسدي الصغير تقترب من الأربعين ولم تنخفض لبعد انتصاف الليل بساعة أو أكثر...أمي غلبها التعب وترغب في النوم لتستطيع مواصله أعباء الحياة في النهار التالي...وأبي يرفض بإصرار استلام نوبته فهو لم يفرغ بعد من قيام الليل ولا جزء القرآن الذي يقرأه بشكل يومي...أذكر جيدا المنضدة المستديره في منتصف المسافه بين أبي وأمي...ترفع أمي الكمادة عن رأسي للمرة الأخيرة قبل أن تلقيها بعنف في سلطانية الماء المثلّج صارخة في أبي: أنا داخله أنام...بنتك عندك انشالله تموت!...ثم تستدير خارجة بعنف مخلّفة ورائها الصمت...أقطع الصمت مخاطبة أبي: روح انت صلّي يا بابا وأنا هموت مش مشكله..ثم أبكي في صمت...فيسحب أبي الكمادة بهدوء ويغمسها ثم يعصرها ويضعها على رأسي صامتا...نتبادل الصمت لفتره ليست بالوجيزة...أو هكذا بدت بالنسبة لي حينها...ثم أسأله باستسلام مفزع للقدر المتوقّع: هو أنا هموت يا بابا؟...فيجيب: لا يا حبيبتي ماتخافيش مش هتموتي دلوقت...ان شاء الله هتخفي وتبقي كويسه...فأطمئن وأسأله بتشكك هذه المرّه: أومال الحراره مش بتنزل ليه؟...فيصمت ويغيّر الكمادة ثم يخبرني: دلوقت تنزل ماتخافيش...ونظل هكذا حتى اقتراب أذان الفجر...لم تنخفض الحرارة...وانتهت الليله بأن غيّر لي أبي ملابسي وأخبرني أنها ليست مشكله...الحرارة لم تنخفض...ولكنها مستقرّه: لا ترتفع...أخبرني أنني يمكنني أن أنام وأن ذلك سيساعد جسدي في التغلّب على الحرارة...نمت...واستيقظت في اليوم التالي لأشارك أبي وأمي الادعاء بأن شيئا كارثيا لم يحدث الليلة الفائته.
ومنذ هذه الليلة وأنا أفعل المستحيل لكي لا أمرض...وإن مرضت أتكتم الأمر حتى لا يضطر أحد إلى تمريضي...فقد أدركت حينها أن التمريض عبء وأن المريض كارثة لا تحتمل وبأن أمّي ليست بأمي...وأني حتما إبنة أبي التي أنجبها من إمرأة أخرى وهذه السيّدة تقبلني في هذا المنزل كأحد أولادها كأمر واقع...وبالطبع لن يخبرني أحد بهذه الحقيقة لئلا أتألم...فلم أسأل أحد من هي أمّي لكي لا أزيد من سوء الوضع...فربما إن علمت هذه السيّده أني قد عرفت الحقيقه تطردني من البيت أو تطالب أبي بإيجاد مأوى آخر لي غير بيتها...فتكتّمت أمر أسطورتي...في فراش المرض كل عام كنت أختلق أسطورة أخرى لأمنطق بها العلاقات المنزليه الّتي أدرك اليوم أنها كانت مشوهه
بعد انفصال أبويّ أصبحت أكثر حرصا على ألا أمرض حتى لا أضطر إلى تجرّع طعام زوجة أبي وتحمّل عبء ذلك كجميل يجب أن أرده...وأصبحت أيضا أقوم بتمريض أيّ من أخويّ إن مرض...وبعد إنتقالنا للحياة إلى أمي أصرّت على أن أظلّ أمرض أخويّ...ثم أنا وأبي منفردين...وأنا الممرضة...ثم الزوجة الثانية لأبي...وظللت أنا أيضا الممرضه...منذ عامي الرابع عشر وحتى اليوم وأنا أمرّض نفسي ومن استطعت إليه سبيلا...أحفظ مواعيد الدواء...ألتزم بطريقة طهي الطعام الملائمة لحالة المريض...وأطعمه بيدي إن لزم الأمر كما كنت أفعل مع أم صديقتي الّتي مرّت بعملية قلب مفتوح...لم أرى من بين كل من مرّضتهم من لم يشعر بالوحدة وبعضهم وقع فريسة ضلالات الفكر بالموت الوشيك وفقدان الحركة للأبد...إلخ...كلها أفكار مظلمه اعتدت عليها باعتبارها أحد أعراض أية مرض يلقي الإنسان طريحا في الفراش...ولكنني إلى هذا اليوم لا أفقه شيء عن عيادة المريض سوى الصمت...الابتسام...التقاط طرف الحديث إن أراد...وإن صمت ألتزم أنا أيضا بالصمت وأمنع وجهي من إظهار أية تعبير ينم عن إدراكي لما يعتمل في ذهنه ويجيش في صدره...وإن أفلتت منه آهة فأنا لا أملك سوى تقبيل الأيدي والرؤوس...عدى ذلك: فلنطهُ لك شيئا تحبّه...وإن كان مسلوقا فيجب ألا يبدُ طعمه كذلك...وكما نتحايل على كل شيء فقد اكتسبت عبر السنون خبرة إكساب الطعام المسلوق طعم غير طعمه الأصليّ الذي يذكّرنا بأننا مرضى
قال الله لعبده: يا عبد مرضت ولم تعدني..فيقول العبد: أوتمرض يا رب!..فقال الله تعالى: مرض عبدي فلان...لو عدته لوجدتني عنده
فالله عند المريض...ولأجل هذا أحرص على التواجد مع المرضى: لألقى الله هناك...يمكنني دائما أن أدرك الله في حضرة المرض...وأحيانا أسمع رفيف أجنحة الملائكة...هناك دائما جوّ من السكينة المفتقده والطيبه النادره تعمّ المكان حيثما يوجد مريض...هكذا أشعر دائما...ولهذا أصمت دائما
أقترب بهدوء من حيث يرقد طريح فراشه...أصافحه بقلب مرتجف فقد أتيت بغير موعد من باب المفاجأة الّتي ظننت أنها ستسرّي عنه قليلا...كانت خطّه بسيطه: وجبة غداء مسلوقه بغير أن تبدو كذلك وأقرأ له قليلا من كتاب يفتقده...لم تمر دقيقتين قبل أن أدرك أني أسأت التقدير...أغلب الظن أن تلك المفاجأة السعيدة جلبت عليه التعاسه...عندما جلست تمسّك بطرف سريره محاولا تعديل وضعه على الأغلب...لم يتحرّك...ربما أدرك وقتها أنه ليس قادرا على أن ينظر إلىّ من عاليه بحنوّ الأخ الأكبر/الأب/الصديق المفتقد...ربما تألم لذلك فقد ضاق صدره بشكل واضح...أشعر برغبة في الفرار...نتبادل بعض العبارات ثم يسود الصمت والحرج المتبادل...احدّق في الشاشه الكبيره بغير هدف فأنا لا أسمع شيء سوى طنين في رأسي: إجري يا أمينه!...هكذا أدرك ذاتي في هذه اللحظة: عبء على قلب مريض لابد أن ينزاح في أسرع وقت...يغمض عينيه فأهم بالنهوض...يفتح عينيه فأتشاغل بإخراج شيء تافه من حقيبتي وأعاود الجلوس والحملقة في الشاشه الكائنة في آخر الغرفة...يغلق عينيه لفتره أطول..أهمّ بالنهوض فلا يفتح عينيه فأخطف حقيبتي وأهرب قبل أن يفتح عينيه..أغلق الباب من خلفي وأهرول مندفعة علي السلم...أقفز داخلة سيارة أجرة وأعود لمنزلي
كل ذلك لم يؤلمني إطلاقا...فطرق باب مريض بغير موعد هو دوما مخاطرة آخذها وأتحمّل عواقبها بصدر رحب...ما أثقل صدري لم يكن تمدده في الفراش...ولا دعامة الرقبة...ولا أي مظهر من مظاهر المرض...فهي أشياء اعتدتها تماما...ولكنها تلك السحجات المتوالية على ظهر كفّه الأسمر المعروق والدمّ المتجلّط فوقها...مرة أخرى كان عليّ أن أواجه الدماء الّتي استدعت نفسها بشكل تلقائي من الذاكره...جلبت معها هم جاثم على الصدر لأكثر من عام لا يمكنني تذكر منبعه...أعود إلى منزلي وأجلس على الأريكة...أغمض عيني وأبكي بهدوء للمرة الثانية في هذا الشهر...وهي الثانيه أيضا خلال العامين السابقين...صارت الدموع صعبة...تعلّم الدمع كيف يحفر الخد ويحرق كل شيء خلفه عدى الهمّ...أغلق عيني فأرى أشلاء ودماء تتدفق من بين ثنايا الذاكرة...فيشق الدمع طريقه كخط رفيع في هذه البركة الحمراء ولا يمحوها...تأتيني من حيث لا أدري صورة لبعض المصابين الذين أفطرنا معهم في أحد أيام رمضان...وأذكر أني لم أطعم شيئا بعدها لمدة ثلاثة أيام سوي النذر اليسير...أتذكر أطرافهم المشلولة...كراسيهم المتحركة...دعامات الرقبة...وأتذكر أعماهم وأيضا أبكمهم بفعل الشلل...فيتضاعف الشعور بالعجز وألعن عقلي الباطن الذي يحجب عني الشعور بالألم وبكل شيء...تتخلل هذه الصوره بعض العبارات الّتي رددوها عن الأمل واليأس...والتساؤلات الّتي لم أملك لها إجابة سوي الابتسام والتشاغل بمسح بقايا الطعام عن أصابعهم وأفواههم واطعامهم المزيد حتي اكتفوا...وأتذكر قسرا خبر تَلَى هذه الزياره بحوالي شهر عن تسريحهم من المستشفى بغير أن يكملوا علاجهم...كل شيء يذكّرني بالعجز...ثم أتذكر أربعة من صغار السنّ مشيت في جنازة أحدهم تمددوا في فراش كفراشه ولكن في غيبوبة تامه...أفتح عيني فأرى وجوههم أمامي منطبعة على كل شيء حولي..فأغلق عيني لأنزلق بين مزيد من الذكريات المحبوسه الّتي فكّت من عقالها فجأة...بسبب سحجات متواليه على كف معروق لا يمكنني تطبيبه...أو تقبيله عرفانا بجميل نَكْئِهِ لجرح التئم على قَيْح كان واجب إعادة شقّه لتصريف بعض الصديد كي تطيب النفس قليلا بالبكاء
أنا لا أملك شيء لأحد سوى عمل كفّي...فقط آتيكم لآتنس بوجود ربي بينما أحاول أن أسرّي عنكم قليلا فلا تغضبوا عليّ...فلم تعلّمني الحياة سوى أن أخدمكم حتى تشفون..واعذروني فلم أعد قادرة على الشعور بأية شيء...إطلاقا...أبلغ ما يمكنني فعله حاليا هو الخدمة والصمت
6 comments:
موجعة قوي التدوينة دي يا أمينة ... ربنا يخليكي دايما باب مساعدة وانس للأخرين وبرزفك المثل!
وعلى صعيد آخر أنا مبسوطة بعودة المدونين :)
ولا عاد فاضلنا غير الوجع يا دينا...بيطلع بالعافيه!
في يوم هاخدك في حضن طويل..
يمكن كل الوجع اللي جوانا يسكت
الهي يرزقك فرحة تستاهلك
" جرأة ، حركة ، حضور " : كان هذا هو انطباعى الأول عنك ، _اليوم فقط _عرفت أن وراء كل هذا "قلب نضيف" نضيف بجد ،يمكن مشكلته بس إنها نضافة على نباهة عشان كده تعبان ، عايزة تريحيه :اعملى مش واخدة بالك ، بس بجد مش كده وكده :) ،وابقى قابلينى بأه لو عرفتى :)، فى الغالب هتلطشى فى تدوينة بنوتة شقية مش ناوية تجيبها لبر و تقوم خابطاك خبطتين جامدين أوى من غير ما تاخد بالها ، تفكرك بالقديم و الجديد ،و تبقى مش عارفة تقولى لها : " الله يسامحك " ولّا " أنت انسانة جميلة أوى " :)
الكلام جوايا بيلعب استغماية .. الاقى الكلمة التانية تروح .... وبعيط .. اكيد وصلك احساسى اللى مش عارفة اوصله بالكلام ربنا قادر يفرج همنا ويكشف عنا الغم والحزن ويفرح قلوبنا وقلوب ضحت علشان البلد دى ... شكرا
عيوني :)
Post a Comment